فصل: تفسير الآيات (12- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة الرعد:

قيل: مكية إلا بعض آيات.
وقيل: مدنية.
والظاهر أن المدني فيها كثير.

.تفسير الآيات (1- 2):

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
قوله عز وجل: {المر تِلْكَ آيات الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق}: قال ابن عباس: هذه الحروفُ هي مِنْ قوله: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى.
وقوله سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ...} الاية: قال جمهور النَّاس: لاَ عَمَدَ للسموات ألبتَّة، وهذا هو الحَق والعمدُ: اسم جَمْعٍ.
قوله سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}: {ثم}؛ هنا: لعطفِ الجُمَلِ، لا للترتيبِ؛ لأن الاستواء على العَرْش قبل رَفْعِ السموات، ففي الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ» وقد تقدَّم القول في هذا، وفي معنى الاستواء.
* ت *: والمعتَقَدُ في هذا: أنه سبحانَهُ مستو على العرشِ على الوَجْهِ الذي قاله، وبالمعنَى الذي أراده استواء منزَّهاً عن المماسَّة والاستقرار والتمكُّن والحلولِ والانتقال، لا يحملُهُ العَرْش، بل العرشُ وَحَمَلَتُهُ محمُولُون بلُطْفِ قُدْرته، ومَقْهُورون في قَبْضته، كان اللَّه ولا شيءَ معه، كان سبَحَانه قَبْلَ أَنْ يخلق المَكَانَ والزمَانَ، وهو الآنَ على ما عليه كان.
وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر}: تنبيهٌ على القُدْرة، وفي ضِمْن الشمسِ والقَمَر الكواكِبُ، ولذلك قال: {كُلٌّ يَجْرِي} أي: كلُّ ما هو في معنى الشَّمْسِ والقَمَرِ، والأجلُ المسمَّى: هو انقضاء الدنيا، وفسادُ هذه البنْيَةِ.
{يُدَبِّرُ الأمر}: معناه: يُبْرمه وينفذه، وعبَّر بالتدبير، تقريباً للأفهام، وقال مجاهد: {يُدَبِّرُ الأمر}: معناه يقضيه وحْدَهُ.
و{لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}: أي: توقنون بالبَعْثِ.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}: لما فرغَتْ آيات السماء، ذُكِرَتْ آيات الأرض، وال {رَوَاسِيَ}: الجبالُ الثابتة.
وقوله سبحانه: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين}: الزَوْجِ؛ في هذه الآية: الصِّنْف والنَّوْع، وليس بالزوْجِ المعروفِ في المتلازمين الفَرْدَيْن من الحيوان وغيره؛ ومنه قوله سبحانه: {سبحان الذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} [يس: 36]، ومنه: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]، وهذه الآية تقتضِي أنَّ كلَّ ثمرةٍ، فموجودٌ منها نوعانِ، فإِن اتفق أنْ يوجد من ثمرةٍ أكْثَرُ من نوعَيْنِ، فغير ضارٍّ في معنى الآية، و{قِطَعٌ}: جَمْعُ قِطْعَة، وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جَاوَرَ وقَرُبَ بعضه من بعض؛ لأن اختلاف ذلك في الأكْلِ أَغربُ، وقرأ الجمهور: {وَجَنَّاتٌ}- بالرفع-؛ عطفاً على قِطَعٌ، وقرأ نافع وغيره: {وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ صِنْوَانٌ وَغَيْرِ صِنْوَانٍ}- بالخفض في الكل-؛ عطفاً على {أعناب}، وقرأ ابن كثير وغيره: {وزرعٌ}- بالرفع في الكل-؛ عطفاً على {قطع}، و{صِنْوَانٌ}: جمع صنْو، وهو الفرع يكونُ مع الآخَرِ في أصْلٍ واحدٍ، قال البراءُ بْنُ عازبٍ: الصِّنْوَان: المجتمع، وغَيْرُ الصِّنوان: المفترق فرداً فرداً وفي الصحيحِ: العَمُّ صِنْوُ الأَبِ، وإِنما نص على الصِّنْوان في هذه الآية؛ لأنها بمثابة التجاوُر في القطع تظهر فيها غرابةُ اختلاف الأَكْلِ، و{الأكل}- بضم الهمزة-: اسم ما يؤكل، والأكل المَصْدَر، وحكى الطبري عن ابن عبَّاس وغيره: {قِطَعٌ متجاورات}: أي: واحدة سبخة، وأخرى عَذْبَة، ونحو هذا من القولِ، وقال قتادة: المعنى: قُرًى مُتَجَاوِرَاتٌ.
قال * ع *: وهذا وجْهٌ من العبرة، كأنه قال: وفي الأرض قِطَعٌ مختلفاتٌ بتخصيصِ اللَّه لها بمعانٍ فهي تُسْقَى بماءٍ واحدٍ، ولكن تختلف فيما تُخْرِجُه، والذي يظهر من وصفه لها بالتجاوُرِ؛ أنها من تُرْبةٍ واحدةٍ، ونوعٍ واحدٍ، وموضِعُ العِبْرة في هذا أَبْيَنُ، وعلى المَعْنَى الأول قال الحَسَنُ: هذا مَثَلٌ ضربه اللَّه لقلوبِ بَني آدم: الأرضُ واحدةٌ، وينزل عليها ماءٌ واحدٌ من السَّماء، فتخرجُ هذه زهرةً وثمرةً، وتخرجُ هذه سبخةً وملحاً وخبثاً، وكذلك النَّاس خُلِقُوا من آدم، فنزلَتْ عليهم من السماء تذكرةٌ، فَرَقَّتْ قلوبٌ وَخَشَعَتْ، وقَسَتْ قلوبٌ ولَهَتْ.
قال الحسنُ: فواللَّه، ما جالَسَ أحدٌ القُرْآن إِلاَّ قَامَ عَنْه بزيادةٍ أو نقصانٍ، قال اللَّه تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إِلاَّ خَسَارًا} [الاسراء: 82].

.تفسير الآيات (5- 7):

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
وقوله سبحانه: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، المعنى: وإِن تعجبْ، يا محمَّد، مِنْ جهالتهم وإِعراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ، فهم أهْلٌ لذلك، وَعَجَبٌ غريبٌ قولُهم: أنعود بعد كوننا تراباً، خلقاً جديداً؛ {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ}؛ لتصميمهم على الجُحُود وإِنكارهم للبَعْث، {وأولئك الأغلال فِي أَعْنَاقِهِمْ}: أي: في الآخرة، ويحتملُ أنْ يكون خبراً عن كونهم مغلَّلين عن الإِيمان؛ كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8].
وقوله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة...} الآية: تبيينٌ لِخَطَئِهِمْ كطلبهم سقوطَ كِسَفٍ من السماء، وقولِهِمْ: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناسٍ كثيرٍ، وقرأ الجمهور: {المَثُلاَثُ}- بفتح الميم وضم الثاء-، وقرأ مجاهد {المَثَلاَثُ}- بفتح الميم والثاء- أي: الأخذة الفَذَّة بالعقوبة، ثم رجَّى سبحانه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}، ثم خوَّف بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب}: قال ابن المسيِّب: لما نَزِلَتْ هذه الآية، قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ مَا تَهَنَّأَ أَحَدٌ عَيْشاً، وَلَوْلاَ عِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلَّ أَحَدٍ»، وقال ابن عبَّاس: ليس في القرآن أَرجَى من هذه الآية: {والمَثُلاَثُ}: هي العقوباتُ المنكِّلات التي تجعل الإِنسان مثلاً يُتَمَثَّلُ به؛ ومنه التمثيلُ بالقَتْلى؛ ومنه: المُثْلَةُ بالعبيد.
ويقولون: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ}: هذه من اقتراحاتهم، والآية هنا يرادُ بها الأشياءُ التي سمَّتها قريشٌ؛ كالمُلْكِ، والكَنْزِ، وغيرِ ذلك، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد، قال عكرمةُ، وأبو الضُّحَى: المرادُ ب الهادي محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ ف {هَادٍ} عطفٌ على {منذر}؛ كأنه قال: إِنما أَنْتَ مُنْذِرٌ وهادٍ لكلِّ قومٍ، و{هاد}؛ على هذا التأويل: بمعنى داعٍ إِلى طريق الهُدَى، وقال مجاهدٌ وابنُ زَيْد: المعنى: إِنما أَنْتَ منذِرٌ، ولكلِّ أُمَّة سَلَفَتْ هادٍ، أي: نبيٌّ يَدْعُوهم، أي: فليس أمرُكَ يا محمَّد ببدْعٍ، ولا مُنْكَر، وهذا يشبه غرَضَ الآية، وقالَتْ فرقة: الهَادِي في هذه الآية: اللَّه عزَّ وجلَّ، والألفاظ تَقْلَقُ بهذا المعنَى، ويعرف أنَّ اللَّه تعالَى هو الهادِي من غير هذا المَوْضِعِ، والقولانِ الأولان أَرْجَحُ ما تُؤُوِّلَ في الآية.

.تفسير الآيات (8- 11):

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}
وقوله سبحانه: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ}: هذه الآيات أمثالٌ منبِّهات على قدرة اللَّه تعالَى القاضِيَةِ بتجويزِ البَعْثِ، {وَمَا تَغِيضُ الأرحام}: معناه: ما تنقُصُ، ثم اختلف المتأوِّلون في صُورَةِ الزِّيادة والنُّقْصَان، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ غَيْضَ الرحِمِ وهو نقْصُ الدمِ على الحَمْل، وقال الضَّحَّاك: غَيْضُ الرَّحِمِ: أنْ تسقط المرأة الوَلَدَ، والزيادة أنْ تضعه لمدَّةٍ كاملةٍ، ونحوُه لقتادة.
وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}: عامٌّ في كل ما يدخلُهُ التقديرُ، و{الغيب}: ما غاب عن الإِدراكات، و{الشهادة}: ما شُوهِدَ من الأمور.
وقوله: {الكبير}: صفةُ تعظيمٍ، و{المتعال}: من العلو.
وقوله سبحانه: {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القول...} الآية: أيْ: لا يخفى على اللَّه شيءٌ، وال {سَارِبٌ}؛ في اللغة: المتصرِّف كيف شاء.
وقوله سبحانه: {لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله}: المعنى: جعل اللَّه للعبد معقِّباتٍ يحفظونه في كلِّ حالٍ من كلِّ ما جرى القَدَرُ باندفاعه، فإِذا جاء المَقْدُور الواقعُ، أسلم المَرْءُ إِليه، وال {معقبات}؛ على هذا التأويل: الحَفَظَةُ على العِبَادِ أَعمالهم، والحَفَظَةُ لهم أيضاً؛ قاله الحسن، وروى فيه عن عثمانَ بْنِ عَفَّان حديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى التأويلات في الآية، وعبارةُ البخاريِّ: {معقبات}: ملائكةٌ حَفَظَةٌ يَعْقُبُ الأَوَّلُ منها الآخِرَ. انتهى.
وقالَتْ فرقةٌ: الضمير في له عائدٌ على اسم اللَّه المتقدِّم ذكره، أي: للَّه معقِّبات يحفظون عَبْده، والضمير في قوله: {يَدَيْهِ} وما بعده عن الضمائر عائدٌ على العَبْد، ثم ذكر سبحانه أنه لا يغيِّر هذه الحالة مِنَ الحفْظِ للعبدِ؛ حتَّى يغير العبد ما بنَفْسِهِ، وال {معقبات}: الجماعاتُ التي يَعْقَب بعضُها بعضاً، وهي الملائكةُ، وينظر هذا إِلى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ...» الحديث، وفي قراءة أُبيِّ بْنِ كَعْب: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ}، وقرأ ابن عباس: {وَرُقَبَاءُ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ}، وقوله: {يَحْفَظُونَهُ}: أي: يحرسونه ويذبُّون عنه، ويحفظونَ أيضاً أعماله، ثم أخبر تعالى؛ أَنه إِذا أَراد بقومٍ سوءاً، فلا مردَّ له، ولا حِفْظَ منه.

.تفسير الآيات (12- 14):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}
وقوله سبحانه: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق...} الآية: قد تقدَّم في أول البَقَرة تفسيرُهُ، والظاهر أنَّ الخوف إِنما هو من صَوَاعِقِ البَرْق، والطَّمَع في الماء الذي يكونُ معه، وهو قولُ الحسن، و{السَّحَابَ}: جمع سحابَة؛ ولذلك جمع الصفة، وال {الثِّقَالَ}: معناه: بحملِ الماءِ، قاله قتادة ومجاهد، والعربُ تصفها بذلك، وروى أبو هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ، قَالَ: «سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ»، وقال ابن أبي زكرياء: مَنْ قَالَ إِذا سَمِعَ الرعْدَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وبِحَمْدِهِ، لَمْ تُصِبْهُ صَاعِقَةٌ.
* ت *: وعن عبد اللَّه بن عُمَرَ، قال: كان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّواعِقَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ، لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِك»، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ والحَاكِمُ في المستدرك، ولفظهم واحد انتهى من السلاح، قال الداووديُّ: وعن ابن عَبَّاس، قال: مَنْ سمع الرعْدَ، فقال: «سُبْحَانَ الذي يُسَبِّح الرعْد بحَمْده، والملائِكَةُ مِنْ خيفته، وهو على كلِّ شيء قدير»، فإِن أصابته صاعقةٌ، فعليَّ ديته، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيُرْسِلُ الصواعق...} الآية: قال ابن جُرَيْج: كان سبَبُ نزولها قصَّةَ أَرْبَدَ، وعَامِرِ بن الطُّفَيْلِ، سألا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يجعلَ الأمْرَ بَعْده لعامِرِ بْنِ الطُّفَيْل، ويدخلا في دِينِهِ، فأبَى عليه السلام ثم تآمَرَا في قَتْل النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: أَنا أَشْغَلُه لَكَ بالحديثِ، واضربه أَنْتَ بالسَّيْف، فجعل عامرٌ يحدِّثه، وأَرْبَدُ لاَ يَصْنَعُ شيئاً، فلما انصرفا، قَالَ له عَامِرٌ: وَاللَّهِ، يَا أَرْبَدُ، لاَ خِفْتُكَ أبداً، وَلَقَدْ كُنْتُ أخافُكَ قبل هذا، فقال له أَرْبَدُ: واللَّهِ، لَقَدْ أردتُّ إِخراج السَّيْفِ، فَمَا قَدَرْتُ على ذلك، ولَقَدْ كُنْتُ أَراك بَيْنِي وبَيْنَهُ، أَفَأَضْرِبُكَ، فمَضَيَا للحَشْدِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأصابَتْ أَربَدُ صَاعِقَةً، فقتلَتْهُ، و{المحال}: القوَّة والإِهلاك.
* ت *: وفي صحيح البخاري: {المحال}: العقوبة.
وقوله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الحق}: الضمير في {له} عائدٌ على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
قال ابنُ عَبَّاس: و{دَعْوَةُ الحق}: لا إله إِلا اللَّه، يريد: وما كان من الشريعةِ في معناها.
وقوله: {والذين}: يراد به ما عُبِدَ من دون اللَّه، والضَّمير في {يَدْعُونَ} لكفَّار قريشٍ وغيرهم، ومعنى الكَلاَمِ: والذين يدعونهم الكفَّارُ في حوائِجِهِم ومنافِعِهِم {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ}، ثُمَّ مَثَّلَ سبحانه مثالاً لإِجابتهم بالذي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ نحو الماء، ويشير إِليه بالإِقبال إِلى فيه، فلا يبلغ فَمَهُ أَبداً، فكذلك إِجابة هؤلاء والانتفاعُ بهم لا يَقَعُ.
وقوله: {هُوَ}: يريد به الماءَ، وهو البالغُ، والضمير في {بَالِغِهِ} للفم، ويصحُّ أنْ يكون هو يراد به الفم، وهو البالغ أيضاً، والضمير في {بَالِغِهِ} للماء؛ لأن الفم لا يَبْلُغ الماء أبداً على تلك الحال، ثم أخبر سبحانه عن دعاءِ الكافرين؛ أنه في انتلاف وضلالٍ لا يفيدُ.

.تفسير الآيات (15- 18):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السموات والأرض...} الآية: تنبيهٌ على قدرته وعظمته سبحانه، وتسخيرِ الأشياءِ له، والطَّعْنِ على الكفَّار التارِكِينَ للسُّجود، و{مَن}: تَقَعُ على الملائكةِ عموماً، وسُجُودُهُمْ: طوع، وأما أهْلُ الأرض، فالمؤمنون داخلُونَ في {مَن}، وسجودُهم أيضاً طَوْع، وأما سجودُ الكَفَرة، فهو الكَرْه، وذلك على معنيين، فإِن جعلنا السجُودَ هذه الهيئة المعهودَةَ، فالمراد من الكَفَرَة مَنْ أسلم، خَوْفَ سيفِ الإِسلام؛ كما قاله قتادة، وإِن جعلنا السُّجود الخضُوعَ والتذلُّل، حَسَب ما هو في اللغة، فيدخلُ الكفَّار أجمعون في {مَن}؛ لأنه ليس من كافرٍ إِلا ويلحقه من التذلُّل والاستكانة لقدرة اللَّه تعالى أنواعٌ أكثر من أنْ تحصَى بحسب رَزَايَاهُ، واعتباراته.
وقوله سبحانه: {وظلالهم بالغدو والأصال}: إِخبار عن أَنَّ الظِّلال لها سُجُودٌ للَّه تعالى؛ كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظلاله} [النحل: 48]، وقال مجاهد: ظلُّ الكافر يسجُدُ طوعاً، وهو كاره ورُوِيَ أن الكافر إِذا سَجَد لصنمه، فإِن ظلَّه يسجُدُ للَّهِ حينئذٍ، وباقي الآية بيِّن، ثم مَثَّل الكفَّار والمؤمنين بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير}، وشبه الكافر بالأعمى، والكُفْرَ بالظلماتِ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ، والإِيمان بالنور.
وقوله سبحانه: {قُلِ الله خالق كُلِّ شَيْءٍ}: لفظ عامٌّ يراد به الخصوصُ؛ كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً}: يريد به المَطَرَ، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: الأودية: ما بين الجبالِ مِنَ الانخفاض والخَنَادِقِ، وقوله: {بِقَدَرِهَا}: يحتمل أنْ يريد بما قُدِّرَ لها من الماءِ، ويحتمل أنْ يريد بقَدْر ما تحمله على قَدْر صغرها وكِبَرها.
* ت *: وقوله: {فاحتمل} بمعنى: حَمَلَ، كاقتدر وقَدَرُ. قاله * ص *.
و{الزبد} ما يحمله السيْلُ من غُثَاء ونحوه، والرابِي: المنتفخ الذي قَدْ ربا، ومنه الرَّبْوَة.
وقوله سبحانه: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع زَبَدٌ مِّثْلُهُ}: المعنَى: ومن الأشياء التي توقِدُونَ عليها ابتغاءَ الحُلِيِّ، وهي الذَهَبُ والفضَّة، أو ابتغاء الاستمتاع بها في المرافِقِ، وهي الحديدُ والرَّصَاصُ والنُّحَاسُ ونحوها من الأشياء التي تُوقِدُونَ عليها، فأخبر تعالَى أنَّ من هذه أَيضاً إِذا أحمي علَيْها يكونُ لها زَبَدَ مماثِلٌ للزَّبَد الذي يحملُه السَّيْل، ثم ضرب سبحانه ذلك مثَلاً للحقِّ والباطِلِ، أي: إِن الماء الذي تشربه الأرْضُ من السيل، فيقَعُ النفْعُ به هو كالحَقِّ، والزَّبَد الذي يخمد وينفش ويَذْهَب هو كالبَاطِلِ، وكذلك ما يخلص من الذَّهَبَ والفضَّة والحديد ونحوه هو كالحَقِّ، وما يذهَبُ في الدُّخَان هو كالبَاطِلِ.
وقوله: {جُفَاءً}: مصدر من قولهم: أَجْفَأَتِ القدْرُ إِذا غلَتْ حتى خَرَجَ زَبَدُها وذهب.
وقال * ص *: {جُفَاءً}: حال، أي: مضمحلاًّ متلاشياً، أبو البقاء: وهمزته منقلبة عن واوٍ، وقيل: أصل. انتهى.
وقوله: {مَا يَنفَعُ الناس}: يريد الخالِصَ من الماء ومِنْ تلك الأحجار.
وقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى}: ابتداءُ كلامٍ، و{الحسنى}: الجنة. {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ}: هم الكَفَرة، و{سُوءُ الحِسَابِ}: هو التقصِّي على المحاسَب، وأَلاَّ يقع في حسابِهِ من التجاوُزِ شَيْءٌ؛ قاله شَهْرُ بن حَوْشَبٍ والنَّخَعِيُّ وَفَرْقَدٌ السَبَخِيُّ وغيرهم.